في زمنٍ تكثر فيه قصص الهجرة غير الشرعية وتُروى مآسي “الحرقة” من الموانئ والسواحل، تبرز من فوشانة قصة أخرى مختلفة، قصة شبابٍ اختاروا مواجهة الإحباط لا بالفرار، بل بالإبداع. من حاويات كانت رمزاً للهروب والمخاطرة، وُلد فضاء ثقافي جديد اسمه “سكادرات الفن” — مشروع شبابي حوّل وجيعة جيلٍ بأكمله إلى نغمة أملٍ وإبداعٍ وتعبيرٍ حر.
من الميناء إلى المنصّة: رحلة فكرة تولد من رحم الواقع
كانت “السكادرات” في الذاكرة الجماعية رمزاً قاسياً لحلمٍ محفوف بالموت، فقد خبّأت بين جدرانها أحلام شبابٍ حملهم اليأس إلى ركوب المجهول نحو الضفة الأخرى. لكن مجموعة من شباب فوشانة، المؤمنين بقدرتهم على التغيير، قلبوا المعنى رأساً على عقب. سألوا أنفسهم:
“علاش السكادرة ما “تكونش ” فضاء للفن… بدل ما تكون وسيلة للهروب و “الحرقة”
من هذا السؤال البسيط انطلقت الفكرة، وتحولت الحاويات من رموز للهجرة إلى رموز للإبداع، ومن مكانٍ مظلم إلى منصّة مضيئة تحتضن الأصوات الحرة.
“سكادرات الفن”: حيث الكلمة تغني، والصوت يصبح سلاحاً
تحت مظلة جمعية “مغرومين بفوشانة”، تم بعث مشروع “سكادرات الفن” ليكون فضاءً موسيقياً مفتوحاً، يتيح للشباب التعبير عن أنفسهم بعيداً عن الأحكام الجاهزة والحدود الضيقة. داخل هذا الفضاء المتواضع في حجمه والعظيم في أثره، تتعالى أصوات الراب والموسيقى الحرة، لتقول إن الفنّ يمكن أن يكون طريقاً آمناً لتأمين المستقبل، ومتنفساً للضغط والألم، ووسيلة لتغيير الواقع.
هنا، تتحول الكلمة إلى رسالة، والنغمة إلى مقاومة، والفن إلى أداة بناءٍ مجتمعيّ. لم تعد “السكادرة” مكاناً للهروب، بل صارت حاضنةً للأمل، تُخرّج مواهب شابة تصنع طريقها بثقة وتزرع في الأحياء بذور الإبداع بدل الخوف.
تكاتف الجهود… وحلم جماعي
لم يكن المشروع ليرى النور لولا تضامن مجموعة من الفاعلين في المجتمع المحلي: الفنان أنور العرفاوي، أمينة المكتبة العمومية بفوشانة، وشركاء من القطاع الخاص مثل شركة Ste Abrc وGharbi Print. هؤلاء جميعاً آمنوا بفكرة بسيطة لكنها قوية: أن الشباب إذا أُتيح له الفضاء المناسب، فسيختار الحياة والإبداع على اليأس والمخاطرة.
من الحرقة إلى الإبداع… جيل يكتب مستقبله
اليوم، يستقبل مشروع “سكادرات الفن” كل شاب أو شابة يريد أن يحكي أو يغني أو يعبّر، لأن الإبداع لم يعد حكراً على النخبة، بل حقّ لكل من يؤمن بصوته وقدرته على التغيير.
إنها قصة انتصار الوعي على الوجع، والإصرار على تحويل المعاناة إلى طاقة إيجابية. من فوشانة، خرجت “سكادرة” جديدة… لا تحرق الحدود، بل تحرق الإحباط.
حين يصبح الفنّ سفينة النجاة
في زمنٍ يهاجر فيه الكثيرون بأجسادهم، قرّر شباب فوشانة أن يهاجروا بأفكارهم نحو الأمل، وأن يجعلوا من “سكادرات الفن” جسر عبورٍ نحو غدٍ أفضل. هم نموذج لجيلٍ واعٍ، رفض الاستسلام للواقع، وآمن بأن الإبداع هو أرقى أشكال المقاومة.
سكادرات الفن… من الحاوية إلى الحكاية، من الوجيعة إلى الأغنية، من “الحرقة” إلى “الإبداع”. هكذا يُكتب مستقبل تونس، على إيقاع الأمل، وبأنامل شبابها.